ولد الأمير عبد القادر عام1807 م,ونشأ في مزرعة أجداده (القيطنة) بوادي الحمام الخصيب بضواحي مدينة وهران.درس اللغة العربية وحفظ القرآن في مدرستها ,ثم أرسله والده للالتحاق بإخوته بمعاهد وهران و تونس و الزيتونة.
يمتد نسبه من الإمام إدريس الأكبر ابن عبد الله بن الحسن حفيد رسول الله صلى الله عليه و سلم ,الذي دخل المغرب العربي عام172 هجرية وبايعته القبائل ,فأقام مملكة قوية و شيد مدينة فاس كعاصمة لمملكة امتدت حتى عام 459 هجرية حينما كثرت المنافسة على الحكم ,فانتصر بني الأغلب على محمد المستعلي بن عبد الله حفيد إدريس الأصغر وانتزعوا منه حكم البلاد ,فانقرضت دولة الأدارسة و التعاقب على الملك.
ولكن من الطبيعي أن لا تنتهي كسلالة في المغرب و الجزائر, فمن هذه السلالة الشريفة كان والد الأمير عبد القادر سيدي محيي الدين,قاد مقاومة قوية عام1830م ضد الغزو الفرنسي للجزائر ,فرأى الشعب فيه رجلاً مسموع الكلمة مؤهلاً لحكم البلاد بعد فشل مقاومة الداي حسين واستسلامه, .فبايعته القبائل عام1832م على الحكم وقيادة المقاومة. اعتذر مرتين ولكن بعد أن ألزموه رشح لهم أحد أولاده وهو عبد القادر الذي كان في الرابعة والعشرين من العمر, فبايعته القبائل بالإجماع في الثالث من رجب عام 1248ه 1822م,وهو تاريخ تحتفل به الجزائر بعد الاستقلال كل عام حتى الآن.
أسس الأمير عبد القادر دولة إسلامية قوية ,ونظم جيشاً وطنياً وقف في وجه أكبر دولة برية في العالم في ذلك الزمن موقف الند, وكبد الغزاة خسائر فادحة أفقدتهم الأمل بالسيطرة على البلاد ,فعمد هؤلاء الغزاة إلى تفتيت الوحدة الوطنية التي أسسها الأمير تحت راية "الله أكبر" لمدة سبعة عشر عاماً,وهي مدة حكمه, واتبعوا أيضاً سياسة الأرض المحروقة والترغيب والتهديد,والجيوش الجرارة بأحدث الأسلحة.وكل تلك الخطط لم يجدوا فيها نفعاً فالتجأ ساستهم إلى سلطان المغرب وبالتهديد باحتلال مدنه وأجبروه على عقد اتفاقية معه لمنع وصول أي مساعدات لقوات الأمير وكتابة رسائل بخطه إلى زعماء القبائل لتحذيرهم من مساندة الأمير, وتكليف المخبرين بالتفتيش عن الزمالة ومكانها وتدميرها مما اضطر الأمير لخوض معارك دفاعية دامية خارجة عن نطاق مخططاته دفاعاً عن حصنه المتنقل (الزمالة) وقواته المجاهدة,وآخر معركة دفاعية كانت ضد قوات نظامية للدولة الشقيقة على ضفاف نهر ملوية وهي الحدود الدولية الفاصلة بين الدولتين شاهد فيها فرسانه يتساقطون برصاص أخوة لهم بالدين والجوار,وعلى الرغم من انتصاره في تلك المعركة إلا أنه ومن بقي معه من قادة جيشه وجدوا بعد دراسة المستجدات أن وجه الحرب قد تغير وبات الغزاة في سعادة واطمئنان بفتح هذه الجبهة الإسلامية العربية بوجه الأمير وجيشه الوطني ,فقرر الأمير ومن كان معه وقف الحرب وسفك دماء المسلمين وقتل الأخ لأخيه في الدين والجوار,ووقف تلك المهزلة وليس وقف مقاومة الغزاة التي ترك رايتها بيد الشعب ثم الهجرة الشرعية والعودة في ظروف تناسبه , وافق العدو على وقف الحرب ً وعلى خروج الأمير من الجزائر من غير معوقات ومن غير شروط,فعقدت اتفاقية رسمية بين الطرفين خرج الأمير بموجبها من البلاد متجها ً إلى عكا, ولكن أثناء الطريق جاء أمر لربان الباخرة بتغيير وجهتها نحو فرنسا ومدينة طولون .لقد قرأت فرنسا أفكار الأمير بالعودة إلى الجزائر فألغت الاتفاق وغدرت به .
وهكذا.. اختطف الأمير وأهله وحاشيته ,وأخذوا سجناء إلى قصر أمبواز في مدينة (بو)على سواحل نهر اللوار,ظل سجينا فيها مدة خمس سنوات إلى أن وصل نابليون إلى سدة الحكم في فرنسا فزار الأمير في سجنه متأسفاً معتذراً عن نقض الاتفاقية من قبل الحكومة السابقة وسلمه صك الإفراج وعرض عليه مبلغ كبير يدفع له سنوياً كتعويض على حجز حريته والغدر به, فقبل الأمير التعويض كمنحة من الله وعد بها الله تعالى المجاهدين والمهاجرين في سبيله.
أما الإمبراطور فقد أراد بها كسب ود الأمير وجعله صديقاً,ولكن الأحداث أثبتت أن هدف نابليون بالنسبة للأمير كان مستحيلاً وبلاده تئن تحت سياط الغزاة من جنود نابليون.ولم يقتصر الموضوع عند ذلك المبلغ وإنما كان هناك احتفالات أقامها الإمبراطور في باريس لوداع الأمير.وفي مرسيليا اصطف أربع فرق بألبستهم العسكرية الرسمية تحية للسجين ,وأطلقت المدافع قبل صعوده إلى الباخرة التي نقلته إلى اسطنبول لمقابلة السلطان عبد المجيد خان حسب طلبه ,
اختار الأمير مدينة بروصة كمكان لهجرته, ولكن عندما كثرت فيها الزلازل اختار دمشق التي دخلها باحتفال كبير شعبي ورسمي كأحد كبار الفاتحين الأقدمين, وعاش فيها مكرماً مبجلاً كمهاجر وليس منفي كما يشاع, داعياً لنشر العلم الشرعي واللغة العربية محارباً للبدع متخذاً من كتاب صحيح البخاري ومسلم وموطأ مالك منهجية تربوية لخدمة المجتمع الإسلامي وتعميق الأيمان. وبقي هناك إلى أن توفاه الله بعد سبعة وعشرين عاماً قضاها مهاجراً في دمشق حتى عام 1300هجرية و1883ميلادية رحمه الله .
يجد الباحث تفاصيل سيرة حياة هذا البطل العالم المجاهد في عدد من المؤلفات منها (ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين) و(الجذور الخضراء),وهو من أربعمائة صفحة,وكتاب (فكر الأمير عبد القادر)وكتاب رده على كتاب هنري تشرشل حياة عبد القادر, وأخيرا ًكتاب (وما بدلوا تبديلاً).